أحمد حرارة أيها الناس

د. محمد يسري سلامة يكتب: أحمد حرارة أيها الناس

منذ عدة سنوات تعرضت لحادثٍ معين نتج عنه بتر اثنين من أصابع يدي
اليمنى. وبما أنني طبيب أسنان، مثل أحمد حرارة، فقد اضطررت إلى ترك مهنتي
وإغلاق عيادتي التي كانت تدر عليَّ دخلاً ممتازًا، والعمل في مجال البحث
العلمي والترجمة. ولا يكاد يوم يمر علي طوال تلك السنوات من دون أن أفكر
كيف كان يمكن للأمور أن تجري بشيء مختلف حتى لا يحدث ما حدث. قد لا يحس من
حولي بالألم الذي أشعر به يوميا لكنه موجود، موجودٌ حين لا أقدر على
الإمساك بشيء من الأشياء كما ينبغي على سبيل المثال، أو حين اضطر إلى توقيع
ورقة فينظر الموظف الذي أمامي إلى يدي مليًّا، أو عندما أتحدث مع من أعرفه
أو من لا أعرفه فأرى عينيه تسترقان النظر إليها من غير قصد. ولكن الموقف
الأصعب كان حينما ذهبت إلى (القومسيون) الطبي لأستطيع صرف معاش النقابة،
فحوَّلوني إلى (لجنة العجز)، وكان للكلمة وقع شديد على نفسي آلمني وأبكاني،
ثم فوجئت بأن (معاش العجز) هذا مبلغ وقدره مائتان وثمانية وتسعون جنيهاً
مصرياً فقط لا غير (زادت مائةً مؤخرًا للأمانة) تُصرف كل ثلاثة أشهر، ما
يعني أن عليَّ أن أعيش وأسرتي بما يقرب من ألف ومائتي جنيه لمدة ثلاثة
شهور، فحمدت الله على أن لدي مصادر أخرى للدخل أستطيع أن أعول بها أسرتي
ولا أتسول، ولكني تساءلت عن غيري الذي قد لا يكون حاله كذلك. إن لفقد جزء
من أجزاء الجسد -وإن كان صغيرًا- مرارة لا يشعر بها إلا من يعانيها.

كل ما سبق هو لا شيء ولا قيمة له بالنسبة إلى ما جرى لأحمد حرارة، فإنه
قد فقد عينيه لا أصبعين من أصابعه، ولم يفقدهما إثر حادثٍ أو مرض، بل ذهب
إلى الميدان ليفقد عينًا ثم ذهب إليه مرةً ثانيةً ليفقد أخرى، والذين
تسببوا في ذلك وصوبوا رصاصهم عامدين متعمدين إلى عينيه الغاليتين ما يزالون
أحرار طلقاء، يذهبون إلى أعمالهم كل صباح، ويضحكون ويأكلون ويشربون
وينامون كأن شيئًا لم يكن. أما نحن فلسنا أحسن حالاً منهم، هتفنا له وهللنا
وصفقنا حينما استقبلناه في المطار، ودعوناه في مناسباتنا وفي برامجنا
وتحدثنا عنه مرارًا وتكرارًا حتى ألقيناه في غياهب النسيان وتركناه وحده في
ظلامه الدامس. صحيحٌ أن آفة حارتنا النسيان، لكن النسيان أحياناً ما يكون
جريمةً وعارًا. ومع ذلك فأنا على ثقةٍ من أن الرجل لا ينتظر من أحدٍ
تكريمًا ماديًا ولا معنويًا، ولا حتى معاش عجز، وأن تلك ليست مشكلته، وأن
كل ما يريده هو أن يرى أن تضحيته الثمينة كانت في محلها وأتت بثمارها، وهو
الأمر الذي لا نستطيع أن نقوله ونؤكده له، ما يجعلنا نتوارى خجلاً لو كنا
حقا من بني البشر.

ترى بم يشعر أحمد حرارة الآن وهو يرى أعداء الثورة وخصومها في الصدارة،
تُفتح لهم الأبواب ويعودون إلى سابق عهدهم في الدجل والكذب والخيانة؟ ترى
بم يشعر وقد صار الفلول هم الثوار، والثوار هم الفلول، وصاروا مقموعين
مهجورين مخذولين من كل أحدٍ تقريباً؟ بم يشعر وهو ينظر إلى كل ما ضحى لأجله
يبتعد شيئًا فشيئًا، والأمل الذي راوده وراودنا يتبدد شيئًا فشيئًا على
أيدي ثلةٍ من المحنَّطين المنتفعين فاقدي الشرف والمروءة؟ بم يشعر ورموز
الثورة وأعلامها كالدكتور البرادعي يهانون ويُخونون على مرأى ومسمع من
الجميع من دون أن يحرك ذلك ساكنًا، وخصومها وكارهوها يكرَّمون ويفخَّمون
ويتسيدون المشهد؟ بم يشعر وقد طعننا الإخوان –رفاق الثورة- لا أقول في
ظهورنا ولكن في قلوبنا؟ بم يشعر وجوقة العلمانيين الغلاة تتحالف مع العسكر
وتخدمهم لمجرد الخلاص من الإسلاميين وتحجيمهم؟ بم يشعر وفريق من السلفيين
يريدون التخلص من حازم أبو إسماعيل ويتمنون خسارته لا لأنهم يختلفون معه في
مبدأ من مبادئه، بل لمجرد مواقفه تجاه الثورة وتجاه العسكر؟ بم يشعر ونحن
على مشارف انتخاب رئيس لن نختاره، وكتابة دستور مُعدٍّ سلفاً بأيدي برلمان
معلقٍ في أيدي النظام بطعنٍ في دستوريته وتهديدٍ ببطلانه؟

لا أدري ماذا أقول، ولا أعرف الإجابة، كل ما يمكنني قوله هو أنه كان
بإمكاننا أن نجعل حرارة في غاية الفخر والاعتزاز بما قدَّم، لكن يبدو أننا
نريد ونصر على أن نصيبه بالحسرة والندم، وأن نفاقم من إحساسه بالمرارة التي
لا أشك في أنها موجودة.

أحمد حرارة، أيها البطل الثائر المجاهد، لا تبتئس ولا تحزن، وإن كنت لن
أعدك بأن تظل في قلوبنا لأنك لم تفارقها أصلاً، كل ما أعاهدك عليه هو أن
أعمل جاهدًا على أن تشعر يومًا بالفخر والعزة لا بالحسرة والندم، وأن تكون
تضحيتك نبراسًا يضيء لنا الطريق على الدوام. أما الشهداء فلا أخشى عليهم،
لأني أرجو أن يكونوا في مكانٍ أفضل كثيرًا مما نحن فيه، في جناتٍ ونَهَر،
في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.

الثورة مستمرة.