مدينة نصر ومعركة جيل

بقلم مصطفى النجار
أمسكت بيدى وصافحتنى ودست بكفى خمسين
جنيهاً، وقالت لى بود: يا بنى مش شايفالك يفط فى الشارع خالص، إعمل لك
يافطة وشد حيلك، ربنا معاكم إحنا عايزين نشوف شباب فى البرلمان.
كانت
هذه هى الروح التى سرت فى دائرة مدينة نصر، ناخبون يمولون مرشحهم ويقومون
بالدعاية المنظمة وغير المنظمة دون علم المرشح نفسه، فاجأنا حماس الناس
وإصرارهم وإخلاصهم وانحيازهم للشباب، لم أتخيل أن تقوم جدة فى الستين من
عمرها بالمرور على نحو خمسمائة شقة فى مربعها السكنى وطرق أبواب الناس
وتحفيزهم للتصويت للشباب، لم أتخيل أن أجد بين المتطوعين فى الحملة أطفالا
فى العاشرة من عمرهم، يقومون بتوزيع أوراق الدعاية على معلميهم بالمدارس
وجيرانهم وعائلاتهم.
قادت مجموعة من أروع شباب مصر وأنبلهم معركة
غاية فى الشرف والنبل والأخلاقية، بأقل الإمكانيات المادية تحركوا وأصبحوا
روحا تسرى فى الدائرة وتنتقل من باب إلى باب، لتبشر بخيار التغيير
والوسطية والجيل الجديد الذى لابد أن يأخذ فرصته.
فى مواجهة هؤلاء
الشباب وقفت قوى تقليدية بإمكانيات ضخمة وبخبرات أعظم وبتنظيمات محكمة
وبتمويل غير محدود، ولكن استطاع هؤلاء الشباب تقديم نموذج جديد لإدارة
الحملات الانتخابية، لا يعتمد على رأس المال وخطابات العواطف والتغييب،
وإنما يعتمد على خطاب العقل والتطوع واستثمار الطاقات الهائلة للشباب فى
تعويض ضعف الموارد المالية.
مع كل يوم كانت أعداد المتطوعين تتضاعف،
وانتشارهم يتنامى، ودوائر تأثيرهم تمتد: شباباً وفتيات ورجالاً ونساء
وكباراً وصغاراً وأغنياء وفقراء.. فوجئنا بعم حسين البواب بإحدى العمارات
بعد أن انتهى من توزيع ورق الدعاية الذى أعدته الحملة ونفاد كامل الكمية،
إذا به يذهب لمحل تصوير ويقوم بتصوير الفلاير الدعائى أبيض وأسود على
نفقته الخاصة ويقوم بتوزيعه، وحين سأله أحد الشباب لم فعلت ذلك ؟ قال له:
إن هذا دين علىّ لشباب الثورة الذين حررونا ولابد أن نرد إليهم الجميل.
مئات
من المكالمات التليفونية العشوائية كان يقوم بها مواطنون من الدائرة، دعما
للحملة، ومساهمة منهم، ومع كل صباح كنا نفاجأ ببانر كبير يغطى واجهة إحدى
العمارات بالشوارع الرئيسية، وحين كنا نسأل كنا نعرف أن هؤلاء الناس قد
أخذوا التصميمات من على الإنترنت وقاموا بطباعتها.
أذهلتنا هذه
الروح التى رأيناها تترجم عمليا صباح أول يوم فى الجولة الأولى من
الانتخابات، ونحن نرى عشرات الألوف تقف فى طوابير طويلة لا تنتهى، تنتظر
دورها بلا كلل ولا ملل لكى تصوت وتختار من يمثلها، كان المشهد ملهما ويؤكد
أن هناك ثورة يكملها شعب ويتمها بهذه المشاركة غير المسبوقة، التى فاجأت
العالم أجمع.
وسبقت المرأة المصرية الرجل فى حجم المشاركة، إذ سجلت
اللجان النسائية حضورا كثيفا تجاوز التسعين فى المائة فى بعض اللجان،
لتؤكد المرأة المصرية أنها كما كانت شريكة فى الثورة فإنها شريكة فى
البناء.
مارس بعض المنافسين أسوأ أساليب الدعاية السلبية، من
التخوين والاتهام بالعمالة والتحريض الطائفى ومحاولات الاغتيال المعنوى،
ولكن وقف وعى الشعب حائط صد منيع أمام هذه الافتراءات، وأثبت فى جولة
الإعادة أنه يثق فيمن يحافظون على سمتهم الأخلاقى ونقائهم السياسى، وكانت
رسالة الناس قوية بما يكفى للتأكيد على أن مصر قد تغيرت بالفعل، وأن
ممارسات الماضى ستضر أصحابها وتحرقهم قبل أن تحرق خصومهم.
انتهت
المعركة الانتخابية وطوينا صفحة الماضى لنبدأ صفحة المستقبل، متجاوزين كل
ما مضى من الآخرين، رافعين ما قاله يوسف عليه السلام لإخوته «لا تثريب
عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين».
ستظل معركتنا
أخلاقية قبل أن تكون سياسية، وسنتحمل هذه المسؤولية الصعبة التى حملنا
الشعب إياها، وسنكون على قدر المسؤولية، هذا الجيل لديه ما يقدمه لهذا
الوطن، ولكن أعطوه الفرصة والوقت وسيبهركم بما سينجزه، مازالت هناك
مرحلتان للانتخابات نتمنى أن يتجه فيهما الشعب لاختيارات تحقق برلمانا
متوازنا لا هيمنة فيه لأى تيار، وكذلك دعم جميع الشباب المرشحين والوقوف
وراء هذا الجيل بكل قوة

.