شهيد فى محراب العمل والعلم

منذ ثمانى سنوات تقريباً والجراح المصرى
الكبير الدكتور مصطفى أبوالنصر يتصل بى على فترات متباعدة، ليخبرنى فى جمل
سريعة حاسمة بشىء مفرح أو شىء محزن، وكل أفراحه وأحزانه تتعلق عادة بشيئين
لا ثالث لهما: منظومة الأخلاق، ومنظومة البحث العلمى.. وليلة الأربعاء
الماضى تلقيت منه اتصالاً، وجاء صوته مشحوناً بالحزن والفرح فى آن واحد.
أبلغنى
الدكتور مصطفى أبوالنصر بخبر وفاة المفكر المصرى الكبير الدكتور عاطف
العراقى، أستاذ الفلسفة بآداب القاهرة، وراح يحكى لى بتأثر شديد الطريقة
التى مات بها هذا المفكر العظيم الذى وافته المنية عن عمر يناهز ٧٧ عاماً.
قال
الدكتور مصطفى إنه علم بوصول الدكتور عاطف العراقى إلى قسم الاستقبال بأحد
المستشفيات الخاصة، ولأنه يعرف قيمة الرجل سارع بالانتقال إلى هناك
للاطمئنان عليه بنفسه، وفى الطريق تلقى اتصالاً آخر من مساعديه يخطره بأن
الدكتور العراقى يريد مغادرة المستشفى حالاً للحاق بموعد إلقاء محاضرته
لطلبة المعهد العالى للدراسات الإسلامية، وأخطروه أيضاً بأن الأعراض التى
يشكو منها تشير إلى تغيرات خطيرة فى القلب، وبعد دقائق وصل الدكتور
أبوالنصر إلى المستشفى وفحص الدكتور العراقى بنفسه، وطلب منه فى البداية أن
يتفضل بإلغاء محاضرته اليوم حفاظاً على صحته، ولكن الرجل أبدى إصراراً على
الانصراف بسرعة للحاق بموعد المحاضرة، فأخبره الدكتور مصطفى بأن حالته قد
تكون خطيرة، وأن ضميره المهنى لا يسمح له أبداً بموافقته على أن يعرض حياته
للخطر، وإذا بالدكتور عاطف العراقى يهب واقفاً ويقول بصوت حاسم: خلال أكثر
من نصف قرن من العمل لم أتخلف مرة واحدة فى حياتى عن موعد محاضرة.. أرجوكم
ساعدونى لكى أصل إلى مكان المحاضرة فى موعدى، وبمجرد الانتهاء من المحاضرة
سأعود إلى المستشفى.
ويضيف الدكتور أبوالنصر أنه توسل إلى الدكتور
العراقى «أبوس إيدك.. أبوس رجلك يا دكتور.. حالتك خطيرة وخروجك من هنا الآن
يعرض حياتك للخطر».. ولكن الرجل كان أكثر توسلاً لأن يتركوه ليلحق
بمحاضرته، وبإمكانه هناك إذا شعر بالتعب أن يعتذر لتلاميذه ويعود فوراً إلى
المستشفى.
وفى المعهد العالى للدراسات الإسلامية دخل الدكتور عاطف
العراقى على تلاميذه، وبدأ على الفور فى إلقاء محاضرته، وسيارة المستشفى
تقف أمام الباب الرئيسى فى انتظاره، وفى منتصف المحاضرة سقط الدكتور
العراقى ووافته المنية فوراً وسط تلاميذه الذين علموا بعد لحظات من وفاته
أنه اختار أن يعرض حياته للخطر بدلاً من أن يتخلف عن واجبه فى الوصول إلى
مكان محاضرته فى الموعد المحدد.
بتأثر شديد يختلط فيه الإعجاب بالحزن
يتساءل الدكتور أبوالنصر: أليس غريباً أن يظل هذا المفكر العظيم محجوباً
عن كل وسائل الإعلام التى ملأت حياتنا بطوفان من النجوم التافهين والنماذج
الانتهازية الجاهلة؟ ألا يعد هذا العالم شهيداً فى محراب العلم والعمل؟ ألا
يستحق من كل وسائل الإعلام أن تتوقف طويلاً أمام القيم التى قضى عقوداً
يبشر بها ومن بينها قيمة احترام العمل والإخلاص الشديد للعلم إلى حد تعريض
حياته للخطر حتى لا يتخلف، ولو لمرة واحدة فى حياته، عن موعد محاضرته؟
رحم
الله الدكتور عاطف العراقى، أستاذ الفلسفة، الذى وهب حياته كلها لقيم
التنوير والتفكير العلمى وتقديس العمل، وغادرنا ونحن فى قلب مشهد سياسى
وثقافى تضطرب فيه مآرب خفافيش الظلام، وتنهشه الخرافات ويخطط العسكر وأعداء
التنوير معاً لاقتسام غنائمه دون رحمة.
بقلم / محمد البرغوثي